الأساليب الفنيّة والعاطفيّة في دعوة النصارى
بقلم: د. علي محمد الصلابي
الأساليب العاطفية: والمقصود بالأساليب العاطفية هي تلك الأساليب التي تعتمد في تأثيرها على مخاطبة العاطفة وإثارة المشاعر للحث على أمر ما أو المنع منه (564)، ولأهمية الأساليب العاطفية في الدعوة، فقد كانت من أبرز أساليب الرسل عليهم الصلاة والسلام في دعوة أقوامهم، ومن ذلك مثلاً ترغيب الرسل لأقوامهم بالمغفرة حال الإيمان كقوله تعالى: (قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَـمًّى قَالُواْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ).[إبراهيم: 10]. ودعوة نوح -عليه السلام- لقومه من خلال ترغيبهم بالخير حال الاستجابة قال تعالى: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً). [نوح: 10- 12]. وكانت الأساليب العاطفية من أبرز أساليب القرآن سواء في دعوة المشركين إلى الإيمان أو حث المؤمنين على الزيادة في الخير (565)، وفي عصر الحروب الصليبية كانت بعض الأساليب العاطفية من ضمن الدعوة الموجهة إلى النصارى، ومن تلك الأساليب: أ- أسلوب الترهيب: ومن ذلك مثلاً ما كان يتخلل به القرطبي نقاشه وردوده على القسيس صاحب كتاب تثليث الوحدانية من تخويف له بالنهاية السيئة إذا مات على معتقده، وترهيبه باليوم الآخر، وعند الوقوف للحساب، وذلك كقوله للقسيس بعد تفنيد بعض ما أورده في كتابه من عقائد كفرية: .. وإذا انتهى إنسان إلى هذه المخازي فقد كفر بموسى، وبإله موسى – نعوذ بالله من أنظار تقود في الدنيا إلى الفضيحة والعار، وفي الآخرة إلى الخلود في عذاب النار (566). وفي موضع آخر وبعد مطالبته القسيس الاستعداد للحساب وذلك بالتوبة عن تأليه عيسى واعتقاد نبوّته، خوّفه بعاقبة إصراره على اعتقاده في ذلك اليوم: فكأني والله بك إن متّ على ما أنت عليه يُؤخذ بناصيتك وقدمك، وتحيط بك ملائكة ربك (مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ). [التحريم: 6] فتنادى فتقول: يا عيسى، يا سيدي، يا إلهي يا ولد الله، فيقول لك: كذبت ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد، ولست بإله، ولم أقل لك كذلك.. فكيف ترى خجلتك بين يديه.. فذلك المقام لا ينفعك فيه ملك مقرب ولا نبي مُرسل، إلاّ مما قدمت يداك من حسن إيمان وصالح عمل.. فإن الملائكة والنبيين لا يشـفعون إلاّ لمـن ارتضى رب العالمين، فالله الله.. انظر في خلاص نفسك لتجني ثمار غرسك (567).ب- أسلوب الاستهزاء والتهكم: في الجهود الدعوية الموجهة إلى النصارى في عصر الحروب الصليبية كثر استخدام هذا الأسلوب من قبل بعض العلماء، وربما كان من أسباب ذلك ما صدر من بعض النصارى ورجال دينهم من كلمات فيها شيء من السخرية والتهكم، سواء في كتاباتهم أو مناقشاتهم أو مناظراتهم مع المسلمين، وذلك تجاه الإسلام ورسوله -صلى الله عليه وسلم- كتداول رسالة ابن غرسيه في الأندلس، والقصيدة التي قيلت على لسان ملك الروم في سبّ الإسلام ورسوله -صلى الله عليه وسلم- وتداولها في هذه الفترة في الأندلس، وعبارات الحقد والسب والاستهزاء في كتابات بعض مؤرخيهم ورجال دينهم كفوشيه شارتر، وإشارة أحد القساوسة في رسالته لأبي عبيدة الخزرجي إلى كثرة مؤلفات النصارى التي تطعن بالإسلام ورسوله صلى الله عليه وسلم، وتستخف بهما، ومن مظاهر استخدام هذا الأسلوب من قِبل بعض العلماء المسلمين في هذه الفترة تجاه النصارى ما جاء في ثنايا مناقشة نصر بن يحيى المتطبب لبعض عقائد النصارى من عبارات الاستهزاء بعقولهم والاستخفاف بحججهم وطريقة استدلالهم كقولهم: ليس لاعتقادهم أصل يُعوّل عليه، ولا برهان يستند إليه، قد اقتدوا بقوم لا يعقلون، واغتروا بجهال لا يفقهون (568). وقوله: .. لكني أقول: لا إله إلاّ الله تعجباً منكم يا ذوي العقول الضعيفة، كيف تعتقدون الألوهية في إنسان لا يقدر على تخليص نفسه من الأعداء.. فأين قدرته أيها الغافلون؟ وأين تمكّنه أيها المبطلون؟ بئس والله ما تعتقدون، إنما أنتم في طغيانكم تعمهون، حدتم عن الرشاد، وسلكتم طريق العناد، وكفرتم بالرحمن واتبعتم سنن الشيطان (569) ومن مظاهر استخدام هذا الأسلوب لدى القرافي في مناقشته لبعض عقائدهم قوله: .. فأي ضرورة تدعوكم إلى إثبات أنواع الإهانة والعذاب في حق رب الأرباب، على زعمكم أيها الدواب، الذي يفضي من ضعف عقولهم العجب العجاب (570) وفي رد الخزرجي على قسيس طليطلة، كان في قوله في صدر رسالته إليه: أما بعد أيها الأعجمي الألكن، الطاعن على كتاب الله جهلاً، ولا يعرف لخطابه فصلاً، والملتمس له تأويلاً، وأنت لم تؤت من العلم كثيراً ولا قليلاً (571) واشتد القرطبي في استهزائه وتهكمه في بعض حجج ألوهية المسيح لدى النصارى بقوله: وعلى الجملة فهؤلاء القوم أغبياء جاهلون، وعن التوفيق معزولون، فهم عن المعقولات معرضون وبها مستهزئون، لا يستحيون من خالقهم، ولا يتأدّبون مع مالكهم ورازقهم، فسبحان الله عما يقول الجاهلون (572). ولا شك أن استعمال أسلوب التهكم والاستهزاء في السخرية من قبل بعض العلماء المسلمين في جهودهم الدعوية الموجهة إلى النصارى قد يجدي في لفت أنظار البعض منهم إلى ضلال ما هم عليه، وأن ما يقوم عليه اعتقادهم وأساس ديانتهم حقاً محل السخرية والتهكم، فربما يكون ذلك دافعاً لتنفيرهم منه، وبحثهم عن الحق، ومن ثم قبوله (573).ج- أسلوب اللين والتلطّف بالخطاب: كان من أبرز أساليب النبي -صلى الله عليه وسلم- في دعوته بشكل عام اللين والرفق والتلطف بالخطاب؛ فتح الله -عز وجل- به قلوباً غلفاً وآذاناً صماً، قال تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ). [آل عمران: 159]. وقـال صلى الله عليه وسلم: "إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق مالا يعطي على العنف" (574). وقال: "إن الرفق لا يكون في شيء إلاّ زانه ولا يُنزع من شيء إلاّ شانه" (575)، وعندما أرسل الله سبحانه وتعالى موسى وأخاه هارون إلى فرعون قال لهما جـلّ وعـلا: (فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً). [طه: 44].ولم تخلُ الجهود الدعوية الموجهة إلى النصارى في فترة الحروب الصليبية من استخدام هذا الأسلوب، وإن كان ذلك بشكل أقل من الأساليب الأخرى ومثال على ذلك؛ رسالة العزاء من صلاح الدين إلى بولدوين الخامس بعد وفاة والده في بيت المقدس، وفي مطلع الرسالة: .. خص الله الملك المعظم حافظ بيت المقدس بالجد الصاعد، والسعد الساعد، والحظ الزائد، والتوفيق الوارد (576). وكان أيضاً يتخلل بعض ردود العلماء، ومناقشاتهم مع النصارى في هذه الفترة شيء من اللين والرفق والتلطف في الخطاب، ومن ذلك مثلاً : الدعاء لهم بالهداية، كقول الخزرجي في نقاشه مع قسيس طليطلة: .. ونحن نسأل الله سبحانه أن يكشف ما بكم من بشع الضلالة ويتلقاكم بالهداية، فهو فعّال لما يريد (577)، وقول القرطبي في رده على كتاب تثليث الوحدانية: .. فالله يعلم أني أنظر إليك وإلى كافة خلق الله بعين الرحمة، وأسـأله هـداية من ضّل من هذه الأمة، وأتأسف على الأباطيل التي ينتحلون، فإنا لله وإنا إليه راجعون (578)، وفي موضع آخر وبلين عبارة خاطب القرطبي صاحب كتاب التثليث حاضاً له على اعتقاده بنوّة المسيح عليه السلام بقوله: .. فما أجل بكم ألو قلتم فيها الحق الذي ينبغي لهما: إن الله جعل عيسى وأمه آية للناس، هو عبداً ورسولاً وأمه صدّيقه مباركة (579).س- أسلوب القسم: وقد ورد استعمال هذا الأسلوب كثيراً في القرآن الكريم، فأقسم الله سبحانه وتعالى بنفسه وآياته وببعض مخلوقاته، والقسم في كلام الله يزيل الشكوك ويحبط الشبهات، ويقيم الحجة، ويؤكد الأخبار، ويقرر الحكم في أكمل صورة (580).وما أكثر الأحاديث التي كان يبدؤها النبي صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده (581)، وقد استُخدم هذا الأسلوب في فترة الحروب الصليبية، ومن ذلك قول الخزرجي في نقاشه مع قسيس طليطلة بعد حديثه عن تحريف الإنجيل: .. حتى إني أحلف بالذي لا إله إلاّ هو أن تاريخ الطبري عندنا أصح نقلاً مـن الإنجيـل، ويعتمد عليه العاقل أكثر، مع أن التاريخ عندنا لا يجوز أن ينبني عليه شيء من أمر الدين (582) وبعد حض القرطبي صاحب كتاب تثليث الوحدانية على نبذ ما يعتقده في عيسى -عليه السلام- أقسم بالله على سوء عاقبته إن مات على هذه النهاية وذلك بقوله: .. فكأني والله بك إن متّ على ما أنت عليه يُؤخذ بناصيتك وقدمك، وتحيط بك ملائكة ربك، ملائكة (لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ). [التحريم: 6].3- الأساليب الفنية: هي تلك الأساليب المتعلقة بجمال التعبير وتحسينه من الناحية اللفظية ليكون أكثر تأثيراً في السامع (583)وفي عصر الحروب الصليبية كان كتاب الله عز وجل هدفاً لمطاعن النصارى وشبههم، والتي كان من ضمنها الطعن في بلاغته وفصاحته، لذلك اعتنى العلماء المسلمون عناية كبيرة في التصدي لذلك في جهودهم الدعوية الموجهة إلى النصارى (584)، وقد تمثل ذلك من خلال إبرازهم لفصاحة القرآن وبلاغته وعجز العرب عن معارضته، أو من خلال استعمالهم لبعض الأساليب الفنية التي تظهر جوانب من فصاحة العربية وبلاغتها وجمالها وقوة تأثيرها، مع عدم التوسع فيها كثيراً بجانب الأساليب الأخرى؛ لنظرتهم إلى أن غالبية النصارى -وهم من العجم- أقل وأحقر من أن يتحدث عن بلاغة القرآن وفصاحته بعدما عجز عنها العرب الأوائل، وهم أرباب البيان والفصاحة، ولذلك قال الخزرجي حينما بين إقرار العرب الأوائل بفصاحة القرآن وبلاغته: فكيف يُلتفت إلى مقال العجم الجهلاء؟(585)، وفي مقدمة رسالته في الرد على قسيس طليطلة قال: أيها الأعجمي الألكن الطاعن في كتاب الله جهلاً(586). وذلك إشارة إلى قصوره لعجميته عن فهم بلاغة القرآن وفصاحته (587)، ومن الأساليب الفنية التي استُخدمت: أ- أسلوب ضرب الأمثال: وضرب الأمثال من الأساليب التي استخدمها العلماء المسلمون في مناقشاتهم وكتاباتهم ومناظراتهم مع النصارى في عصر الحروب الصليبية، فمن الأمثال السائرة التي استخدمها القرطبي في رده على القسيس قوله: لا يستوي الظل والعود أعوج (588)، وذلك بعدما عرض مذاهب النصارى واختلافهم في تفسير الأقانيم، ومحاولة كل فرقة إصلاح خلل الأخرى في ذلك، وقصد القرطبي في هذا المثال أنه مهما حاولوا تقويم الخلل في تفسيراتهم لهذه العقيدة الباطلة فلن تستقيم، كحال الذين يريد إقامة ظل لعود أعوج، فلن يستقيم الظل ما دام العود على اعوجاجه، وهذه حال تفسيراتهم لن تستقيم وتصحح الخلل ما دام أصل العقيدة باطلاً، وفي موضع آخر، وبعد رده على النصراني ومناقشته لما طرحه من تفسير لعقيدة الاتحاد وإبطال هذه التفسيرات التي جاء بها، ختم ذلك بإيراد هذا المثل وهو قوله: فإن الفتق اتسع على الراقع (589)، ففي هذا المثل قصد القرطبي أنه مهما جئت أيها النصراني بتفسير لهذه العقيدة الباطلة – عقيدة الاتحاد تفسير يقبله العقل فلن تفلح، فكلما أجبت على سؤال ثارت عليك أسئلة، كمن يريد أن يرقع ثوباً اتسع فتقه، ومن استخدام الأمثلة السائرة لدى القرافي أنه بعد وصفه لرجال الدين النصارى بالجهل الشديد، وعدم تفريقهم بين الحلال والحرام، وغفلتهم وبلاهتهم التي حجبت عنهم عقل الحق، والأخذ به، ختم بقوله: حتى إن أحدهم لا يفرق بين كوعه من بوعه (590).ب- أسلوب القصة: وفي عصر الحروب الصليبية استخدم كثير من العلماء أسلوب القصة في جهودهم الدعوية الموجهة إلى النصارى لكونها من أنسب الأساليب مع النصارى؛ لكشف باطلهم وبيان ما في كتبهم من تحريف وتبديل، وإظهار مواقفهم من أنبيائهم، ومن هذه القصص ما قام به الخزرجي في رده على قسيس طليطلة في قوله: إنه لا ينكر صلبه – أي عيسى- إلاّ كافر (591)، عرض قصة الصلب كاملة حسب رواية النصارى، مستنبطاً منها الأدلة على وقوع الصلب على الشبه، وليس على عيسى كما يدعيه النصارى (592)وعرض القرطبي قصة قسطنطين ومجمعه الذي ابتدعت فيه كثير من شرائع النصارى الباطلة، ومنها الصلب، وذلك دليلاً على عدم اعتمادهم على شيء في هذه العقائد، وأنها من وضع ضُلاّلهم، وليس من أصل ديانتهم الصحيحة (593)، وحينما عرّض القسيس للقرطبي في هاجر أم إسماعيل -عليه السلام- وفي معرض الرد عليه ساق القرطبي قصة هاجر مع سارة من التوراة كاملة لبيان افتراء هذا القسيس (594) وفي معرض إثبات القرطبي لنبوَّة عيسى -عليه السلام- سرد قصة بولس اليهودي، وأثره في تحريف النصرانية، والقول بألوهية المسيح، ثم أثر قسطنطين بعد ذلك (595)، ثم عقّب بقوله: ... ولتعلم أن هذه الأخبار التي ذكرناها لا يمكنهم إنكار جملتها، وإن أنكروا بعض تفاصيلها؛ لكون هذه القصص معروفة على الجملة عندهم، فإنهم لا يقدرون على جحد محاربة بولس اليهودي وإجلائهم من الشام ودخول بولس في دينهم، وكذلك الملك قسطنطين مما لا ينكرون إشهاره لكتبهم (596)، وساق القرافي أيضاً قصتي بولس وقسطنطين في معرض بيان أثرهما في تحريف النصرانية وإضلال النصارى (597). ثم عقّب على ذلك بقوله: وكفى بهذه الثلمة في دين النصارى خللاً عظيماً، لم تترك لهم عقلاً مستقيماً، ولا قلباً سليماً(598). ونوع آخر من القصص ورد الاستشهاد به كثيراً في مناقشات العلماء المسلمين، وردودهم على النصارى في هذه الفترة، وهي القصص التي تتعلق بالتاريخ الإسلامي وحياة النبي ومناقبه، ومن ذلك مثلاً قصة كفالة جده ثم عمه، ورضاعه من حليمة، والبركة التي هلّت عليها بسبب ذلك، وقصة رحلته إلى الشام ولقائه (599) ببحيرا الراهب وشهادته له بالنبوة، ثم سرد القرطبي الكثير من القصص أيضاً حول معجزات النبي -صلى الله عليه وسلم- وذلك في سياق الحديث عن دلائل نبوّته، ومن ذلك مثلاً: قصة نبع الماء من بين أصابعه في إحد غزواته، وتكثير الطعام في غزوة الخندق وغيرهما، وقصص أخرى كثيرة أبرز فيها القرطبي حماية الله -سبحانه وتعالى- لنبيه -صلى الله عليه وسلم- كرد المشركين عنه ليلة الهجرة وخبر سراقه وغير ذلك، وهكذا إيراد القصة في الجهود الدعوية الموجهة إلى النصارى، بالإضافة إلى كونه يزيد من جمال التعبير، ويضفي عليه شيئاً من التشويق، فإن له أثره في التمهيد لقبول المحتوى لدى السامع وإيصال المعنى المراد له من خلال استغلال ذلك (600).ج- أسلوب التكرار: ومن الأساليب الفنية أسلوب التكرار، والذي قد يكون تكراراً لكلمة بعينها، أو لمعنى، أو لعبارة أو لفكرة، أو لموضوع ويكون التكرار عيباً لموضوع إذا كان عارياً عن الفائدة، ولا يكون له معنى بلاغي، إلاّ إذا كان الهدف معيناً كأن يكون القصد منه التأكيد، أو المبالغة أو الإيضاح، أو بيان الأهمية، أو إبراز المعنى الواحد في صور مختلفة إلى غير ذلك (601). والتكرار من الأساليب التي استخدمها العلماء المسلمون في كتاباتهم ومناقشاتهم مع النصارى في فترة الحروب الصليبية، فمن ذلك مثلاً: تكرار نصر بن يحيى المتطبب الإشارة إلى تحريف الأناجيل؛ حيث فصّل في الموضع الأول، وذلك في سياق ذكره لواضعي الأناجيل الأربعة، حيث ذكر شواهد على الاختلافات فيما بينها، ثم اختصر ذلك في موضع آخر، وذلك في سياق ذكره لتاريخ كتابة الأناجيل والتي كانت كثيرة جداً، فاختُصرت إلى أربعة منها في المجمع الذي دعا إليه الملك الروماني قسطنطين، حيث تساءل نصر بن يحيى: ما حال عشرات الأناجيل المستبعدة؟ وعلى أي أساس تمّ انتقاء هذه الأربعة فقط؟ (602) حيث يظهر الوجه البلاغي للتكرار في الموضعين إلى اختلاف الهدف من إيرادها، ففي الموضع الأول إبراز التناقض بين الأناجيل الأربعة المعتمدة لدى النصارى، وفي الموضع الثاني الطعن في أصل الأناجيل بشكل عام، وطريقة اعتمادها لدى النصارى، وعلى أي أساس كان اختيارها؟ ولم يكن في غيرها من عشرات، الأناجيل الأخرى المستبعدة ما هو أفضل منها (603)، وكذلك كرر الخزرجي الإشارة إلى حفظ القرآن وعدم تحريفه، فمن ذلك مثلاً ذكْره لذلك مجملاً في سياق المقارنة مع تحريف كتب النصارى (604) ثم تفصيل ذلك في سياق الحديث عن إعجاز القرآن، وكونه من أدلة صدق رسالة النبي -صلى الله عليه وسلم- والإسهاب في عرض وجوه إعجازه وصبطه (605).د- أسلوب الاستفهام: والاستفهام هو الطلب بشيء لم يكن معلوماً من قبل، بأدوات خاصة، وهو من أنواع الإنشاء الطلبي (606) وقد تخرج ألفاظ الاستفهام عن معناها الأصلي إلى معانٍ تُفهم من السياق كالنفي والنهي والتقرير والأمر، والإنكار والتشويق والتعجب والوعيد إلى غير ذلك (607)، وهذه المعاني تضفي على التعبير جمالاً وتزيد من تأثيره في السامع؛ ففي مناقشة نصر بن يحيى المتطبب لعقيدة الاتحاد بين اللاهوت والناسوت التي يدعيها النصارى في المسيح، وأن الناسوت حين الصلب مات واللاهوت لم يمت تساءل نصر بن يحيى على سبيل الأنكار قائلاً: فكيف يكون ميتاً لم يمت في حال واحد (608)، فالمتطبب لم يلقِ هذا السؤال طالباً الإجابة عليه، وإنما للإنكار على النصارى الذين أدّى بهم اعتقاد الاتحاد إلى هذه النتيجة التي لا يقبلها العقل، فهذا السؤال يثبَّتُ فساد نتيجة هذا الاعتقاد عليهم، مما قد يؤدي بالعقلاء منهم إلى الإقرار بفساده والإقلاع عنه، وبعد بيانه لبعض تناقضات النصارى في تفسير الاتحاد وجّه هذا السؤال لهم على سبيل الإنكار لمجمل اعتقادهم في المسيح -عليه السلام- وذلك بقوله: فكيف يصح لذي عقل عبادة المولود من امرأة بشرية قد مات ونالته العلل والآفات؟ (609)، وهكذا في مواضع أخرى بعد مناقشة المتطبب لبعض عقائد النصارى يلقي عليهم أسئلة على سبيل الإنكار لباطلهم (610).هـ- أسلوب التعجب: وهو دهشة المتحدث واستغرابه في أمر ليس له تفسير في نفسه، أو أن تفسيره غير متوقع لديه (611) وبعد إيراد الجعفري لبعض تناقض الإنجيل قال: فانظر رحمك الله ما أفسد هذا الكلام وأقربه من كلام المجانين (612) وفي السياق نفسه وفي موضع آخر قال: فانظر – رحمك الله – ما أقبل عقول هؤلاء القوم إلى الترهات التي تمجّها الأسماع وتأباها الطباع (613)، وفي موضع آخر من السياق نفسه قال: ما أقبح هذا التكاذب، وأوضح هذا التناقض (614). وهكذا في مواضع كثيرة، وبعد تفنيد القرطبي لعقيدة الفداء لدى النصارى، وتهافت أدلتهم عليها ختم ذلك بقوله متعجباً من عقولهم الضعيفة التي قبلت مثل ذلك (615)... قاتلكم الله ما أسخف عقولكم!!(616).و- أسلوب استخدام الشعر في تأدية بعض المعاني: وفي عصر الحروب الصليبية لم تخلُ ردود العلماء ومناقشاتهم مع النصارى من استخدام الشعر، فمن الأمثلة على ذلك قصيدة البوصيري في الرد على النصارى واليهود والتي مطلعها: جاء المسيحُ من الإله رسولافأبى أقلُّ العالمين عقولاوقد ناقش فيها الكثير من عقائدهم، وانتقدها مبيناً بطلانها وعدم اعتمادهم على دليل فيها (617)، ومن هذا القبيل أرجوزه لأبي طالب عبد الجبار المرواني تعرض فيها لبطلان ما عليه النصارى ومنها: وصانعُ العالمِ فردٌ صمدْالصنعُ لم يشركْهُ فيه أحدْإلى قال: وللنصارى القولُ في التثليثِأفظعْ به من مذهبٍ خبيثِ (618)ومن ذلك مثلاً ما أورده القرطبي في مقدمة ردّه على صاحب الكتاب وتناقضاته، وأنه بكتابته فضح نفسه، حيث استشهد على ذلك بهذا البيت: وإنّ لسانَ المرءِ ما لم تكنْ لهحصاةٌ على عوراتِهِ لدليلُ(619)فالقرطبي بهذا البيت عبّر باختصار بليغ كيف فضح هذا النصراني لسانه، ودل على جهله وركاكة أسلوبه، وفي موضع آخر حينما حاول هذا النصراني إظهار فصاحته بجمل ساقها ردّ عليه القرطبي بقول الشاعر: دعِِ المكارمَ لا ترحلْ لبغيتِهاواقعدْ فإنك أنت الطاعمُ العاريوذلك كناية عن قصوره وعجزه وعدم أهليّته لهذا الأمر، وحينما استدل النصراني ببعض الآيات القرآنية على بعض باطله مؤولاً معناها الصحيح، كان من إجابة القرطبي قول الشاعر: ألقِ السلاحَ فلسْتَ من أكفائناواقعدْ مكانك في الحضيضِ الأسفلِ (620)وذلك كناية على أن المسلمين هم أهل المعرفة بالقرآن وعلومه وتفسيره، وليس هذا لك أيها النصراني، ولا شك أن معنى هذا البيت أغنى القرطبي عن مقال طويل في بيان أحقية المسلمين، وقدرتهم على تفسير القرآن ومعرفة علومه، وعجز أمثال هذا النصراني عن ذلك (621).وفي موضع آخر وفي مناقشة تناقض أمانة النصارى وقولهم فيها:إن المسيح الذي صلب سيعود لفصل القضاء بين الأحياء والأموال رد الجعفري على ذلك بقول الشاعر:لا ألفينّك بعد الموت تندبنيوفي حياتي ما زوّدتني زادني (622)وقصد الجعفري بهذا البيت بيان عجز المسيح عن خلاص نفسه من القتل والصلب بزعم النصارى، فكيف يقدر على خلاصهم بجملتهم، وهذا المعنى لا شك يستغرق صفحات لو أراد الجعفري التفصيل في شرحه، وهكذا في مواضع كثيرة استغنى الجعفري بأبيات شعرية تؤدي المعنى الذي يقصده دون إسهاب في تفصيل ذلك المعنى نثراً (623)، وكان القرافي في كتابه "الأجوبة الفاخرة" يستشهد أيضاً ببعض الأبيـات الشـعرية اختصاراً بها عن تفصيل ما يريد بيانه نثراً قد يستغرق صفحات منه في بعض النقاط (624).
نقلا عن موقع الإسلام اليوم
0 تعليقات:
إرسال تعليق
الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]
<< الصفحة الرئيسية