الثلاثاء، 3 نوفمبر 2009

هل دخل السودان في حضن أمريكا ؟ / شريف عبد العزيز




المختصر / في هدوء مريب وعلي نار هادئة ووسط أجواء إقليمية عاصفة تحيط بالمنطقة العربية والإسلامية ، نجحت الدبلوماسية الأمريكية في نصب شباكها الناعمة علي بلد إسلامي وقطر عربي آخر ظل لفترة طويلة من الزمن شوكة في خاصرة التوسعات والأطماع الأمريكية في القارة الإفريقية ، هذا البلد الذي نعنيه هو السودان الكبير .




ـ ففي مؤتمر صحفي موسع عقدته اليوم الاثنين وزيرة الخارجية الأمريكية كلينتون في العاصمة واشنطن بحضور سوزان رايس مندوبة أمريكا في الأمم المتحدة ، وسكوت جريشن المندوب الأمريكي الخاص للسودان ، أعلنت كلينتون عن سياسة أمريكية جديدة في التعامل مع السودان تكرس لعلاقة جديدة يتم بها تجاوز خلافات الماضي ، والتركيز علي حل القضايا العالقة والمشاكل القائمة وعلي رأسها مشكلة دارفور ، وملف الجنوب الساخن ، وغيرها من الملفات الملتهبة والتي أزمت الأوضاع داخل السودان لقرابة الثلاث عقود من الزمان .



فما سر تغير السياسة الأمريكية تجاه السودان ؟



الإدارات الأمريكية المتعاقبة ومنذ نجاح حركة سوار الذهب في الإطاحة بحكم النميري المعروف بتوجهاته وولائه لأمريكا والغرب ، وهي تنظر بعين الريب والشك لحكومة الخرطوم ، وساد التوتر والاضطراب العلاقة بين الطرفين خاصة خلال فترة سيطرة الترابي علي زمام الأمور بالسودان ، وبلغت التوترات أشدها عندما قصفت الطائرات الأمريكية عدة أماكن بالعاصمة الخرطوم وأم دورمان ، منها مصنعاً للأدوية بحجة أنه مصنع لإنتاج الأسلحة الكيميائية ، ووضعت السودان علي لائحة الإرهاب ، وقاطعتها الشركات والمؤسسات الأمريكية والأوروبية بحجة دعم السودان للإرهاب ، وفي نفس الوقت تدفقت المساعدات المادية واللوجستية علي متمردي الجنوب من أجل الضغط علي حكومة السودان إجبارها علي الخضوع للإرادة الأمريكية .



وفي سنة 2005 توجت الضغوط الأمريكية علي حكومة الخرطوم التي أنهكتها معارك الجنوب ، والحصار الاقتصادي والتجاري الطويل والخانق ، ومشاكل العرقيات في الغرب والشرق ، توجت الضغوط بتوقيع اتفاقية سلام مع الجنوب يتم بموجبها إعطاء الجنوبيين حق تقرير المصير خلال ست سنوات ، أما الاستقلال وأما البقاء مع الشمال في حكومة وحدة وطنية ، وكان توقيعها بمثابة إعلان مؤجل لتقسيم السودان وتشطيره وضياع هويته ووحدته .



أمريكا وسياسة استدراج السودان



ـ ومع ذهاب الإدارة الراديكالية الحمقاء بقيادة بوش ، بدأت الإدارة الجديدة في التفكير باحتواء الخصم السوداني والإستفادة من تطورات الأحداث داخل السودان ، وخاصة بعد تفجر الأوضاع داخل إقليم دارفور ، والكشوف المتتالية لمصادر الطاقة مثل البترول واليوارنيوم وبكميات ضخمة بالسودان مما جعل لعاب الأمريكان يسيل تجاه هذه الثروات الطبيعية الضخمة مما يجعل السودان مستهدفاً من جانب العديد من القوي العلمية الجدية مثل الصين وألمانيا .



و علي أسلوب العصا والجزرة الشهير بني الأمريكان سياستهم الجديدة ، وبلعبة الطيب والشرير ، ولعبة تبادل الأدوار، وباستخدام القوة الناعمة والقوة الخشنة ، لعبت سوزان رايس مندوبة أمريكا بالأمم المتحدة دور الشرير المتعنت تجاه السودان والذي يؤثر استخدام القوة الخشنة ، وقامت بدور فعال في استصدار العديد من القرارات الأممية ضد السودان ، وتجاوبت مع الأصوات الداعية لمحاكمة الرئيس البشير وتشديد العقوبات علي السودان ، في حين لعب سكوت جريشن الجنرال المتقاعد ومندوب أوباما الخاص للسودان دور الطيب الحريص علي مصلحة السودان والذي يفضل التريث في التعامل مع قضية دارفور ، ووقف موقفاً إيجابياً تجاه الأحداث الداخلية بالسودان ، وصل لحد رفض قرارات المحاكمة الدولية لجرائم الحرب والخاصة باعتقال البشير .



وعلي نار هادئة ولفترة امتدت عدة شهور بدأت وزيرة الخارجية كلينتون في صياغة سياسة توافقية بين مجهودات رايس وجريشن ، بدأت باستقبال عدد من المسئولين السودانيين بواشنطن من أجل بحث قضايا دارفور في شهر يونيه الماضي ، وهناك عرض الأمريكان حزمة من الحوافز الأمريكية علي الحكومة السودانية من أجل القبول بعدة أمور تحقق مصالح استراتيجية وحيوية هامة لأمريكا ليس بالسودان وحده بل بالمنطقة كلها ، وقد أبقي الأمريكان الباب مفتوحاً لدخول السودان الحظيرة الأمريكية التي تضم سائر دول المنطقة .



وقد أثمرت هذه السياسة مع السودان سريعاً ، حيث أبدى مندوبها مرونة كبيرة لم يتوقعها الأمريكان أنفسهم تجاه طلباتهم وتم وضع اللمسات الأخيرة لهذا الاتفاق بواشنطن وأعلن عن أهم بنوده اليوم الاثنين كما يلي :



1 عقد استفتاء الجنوب لتقرير المصير في موعده المحدد 2011



2 منع السودان من أن تكون قاعدة للإرهاب



3 توقيع عدة اتفاقيات اقتصادية وتجارية لتنمية ثروات السودان الطبيعية والاستفادة منها داخلياً في التنمية ، وخارجياً يستفيد الطرف الأمريكي بالنصيب الأكبر من هذه الثروة الضخمة .



4 قطع علاقة السودان مع كافة المنظمات الإرهابية وعلي رأسها جيش الرب وهي منظمة إرهابية أوغندية تشكلت من عشرين سنة وتحارب علي عدة جهات ، وقد اتهم السودان بأنه يمولها من أجل عمليات التطهير العرقي في دارفور .



5 ضبط السودان لحدودها الشرقية والمحاذية للبحر الأحمر ، وذلك لقطع الطريق علي الإمدادات المحتملة لحركة حماس بفلسطين .



أولي ثمار الإستدراج



ولأن سياسة العصا والجزرة تعتمد في الأساس علي فكرة العرض والطلب ، وانتظار ردود الأفعال تجاه العروض الأمريكية ، فإن حكومة السودان قد استجابت بسرعة لافتة للانتباه للعرض الأمريكي ، وذلك بعدة خطوات سريعة منها :



1ـ إلغاء بند ممنوع السفر لإسرائيل الموجود منذ فترة طويلة في جوازات السفر السودانية ، وإصدار الجوازات الجديدة خالية من هذا القيد الذي بموجبه لم يكن في وسع أي سوداني السفر لإسرائيل ، كخطوة أولي علي طريق الألف ميل في التطبيع والذي يبدأ عادة بخطوة من هذا النوع .



2 الموافقة علي عقد الانتخابات في الجنوب بأغلبية بسيطة للترجيح [ 51% ] فقط بعد أن ظلت الحكومة تشترط نسبة 71% للموافقة علي اعتماد نتيجة الانتخاب ، مما يعني فعلياً وواقعياً انفصال الجنوب رسمياً عن الشمال بغض عن الانتظار لسنة 2011 لعقد الانتخابات ، إذ أن غالبية الجنوبيين يؤيدون الانفصال ، وقد قال وزير السياحة السوداني جوزيف ملوال وهو من قادة الجنوب : أن الساحة الآن مهيأة في الجنوب للانفصال أكثر من أي وقت مضي ، فطوال الفترة الماضية لم يعمل الطرفان الشمالي والجنوبي علي ما يدعم فكرة الوحدة ، في حين ذهب وزير شئون البرلمان السوداني جوزيف أوكيلو أن الانفصال ليس خياراً وإنما أمر يؤخذ بعد معارك سياسية وانتخابية ، وفي نفس الوقت صرح باقان أموم الأمين العام للحركة الشعبية أن 90 % من الجنوبيين يؤيدون الانفصال عن الشمال ، أي أننا الآن نتحدث عن واقع كائن لا محالة إلا أن يشاء الله غير ذلك .



3 السماح للأمريكيين ببناء سفارة جديدة لهم بإحدى ضواحي الخرطوم هي الأكبر والأضخم في القارة الأفريقية علي مساحة 122 فدان ، أي أشبه بمدينة صغيرة داخل السودان ، سيكون لها دور كبير في المنطقة العربية والأفريقية عامة ، وسبق أن تكلمنا عن خطورة هذه السفارة الجديدة في مقال بعنوان مدينة أمريكية بالسودان منذ عدة أشهر فلتراجع للمزيد من المعلومات



هل سيستفيد السودان من الحضن الأمريكي ؟



من خلال العرض السريع لملامح السياسة الأمريكية الجديدة بالسودان يتضح لنا أن أمريكا ستستفيد كلياً من التنازل السوداني والترحيب غير الحذر الذي جاء من الطرف السوداني ، وستحقق أمريكا مكاسب ضخمة من التجاوب السوداني مع هذه السياسة ، فبموجب هذه السياسة ستضع أمريكا يدها علي الثروات الطبيعية الضخمة للسودان ، وستحقق لها وجوداً أمنياً قوياً طالما حلمت به وخططت له بالمنطقة الشرقية بالسودان ، وستضمن انفصال الجنوب عن الشمال مما سيهيئ لقيام دويلة تابعة لها وللغرب والنصرانية عموماً في منطقة في غاية الحساسية والأهمية وهي منطقة منابع النيل التي تخطط إسرائيل للسيطرة عليها منذ فترة طويلة ونجحت بالفعل لحد كبير في استقطاب معظم دول الحوض ، مما سيعرض مصر تحديداً لخطر كبير وداهم في المستقبل القريب .



وفي المقابل لن يحصل السودان من تجاوبه مع هذه السياسة إلا الأمن من مكر أمريكا وآلتها العسكرية الجهنمية ، وقد أعلنها صراحة أوباما عندما قال أن العقوبات علي السودان لن ترفع إلا إذا أبدى السودان خطوات إيجابية حيال المتطلبات الأمريكية ، ومن الممكن جداً عودتها إذا أخلت حكومة السودان بالتزاماتها ، مع وعود غير ملزمة ولا مؤكدة من قبل إدارة أوباما بالعمل علي إلغاء القرار الصادر من محكمة جرائم الحرب الدولية ضد الرئيس البشير ، فماذا الذي جناه السودان إذاً ؟ وما المقابل لهذه التنازلات والمزايدات السودانية ؟



حكومة السودان صفقنا لها كثيراً عند وقفت مواقف شجاعة وحاسمة تجاه التهديدات الأمريكية والأوروبية ، وحيينا فيها صمودها أمام الكثير من الضغوط ، وانبهرنا بالشجاعة الكبيرة للرئيس البشير الذي كانت طائرته تجول دول المنطقة إفريقيا وعربياً بلا أدنى خوف من تهديدات أوكامبو الأخرق الموتور ، وظننا أن الصمود والإباء العربي والإسلامي قد عاد مرة آخري بطبعته السودانية ، ولكن على ما يبدو أننا قد تسرعنا ، وأفرطنا في حسن الظن ، ونسينا أ، لعبة السياسة لا تعرف ثوابت و مبادئ ، فهي فن الممكن كما قيل عنها ، وهل مجرد إلغاء قرار المحكمة الدولية وحده يكفي مقابلاً لكل هذه التنازلات ، أم أنه اليأس السوداني من المراهنة علي الدعم العربي والإسلامي ، أم أنها الحكمة التي تعلمها الجميع ووعاها كل أفراد القطيع ، من رأس صدام الطائرة ، ثم نقول أين مصر من هذه التطورات الخطيرة التي تجري علي بوابتها الجنوبية ؟ وأين السياسة المصرية الخارجية في احتواء التحركات الأمريكية والإسرائيلية الرامية لخنق مصر من كل اتجاه ؟ ولما السكوت المصري المريب تجاه العبث بأمنها القومي والمائي والحدودي ؟ وهي المستهدف الأول من كل هذه السياسات الأمريكية ؟



السودان علي أغلب الظن قد دخل الحضن الأمريكي ، ولحق بباقي إخوانه داخل الحظيرة الأمريكية ، ليأمن قليلاً من شر الأمريكان وعدوانهم ، وقد يكون لدى السودان المبررات السياسية والداخلية التي تدفعه للرضوخ للسياسة الأمريكية الجديدة ، ولكن الذي قد لا يعلمه حكام السودان أنهم لن يجنوا سوى قبض الريح وحرث البحر ، وعما قليل لن يكون هناك بلد اسمه السودان .





0 تعليقات:

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية