الأحد، 17 مايو 2009

أيدولوجية ومنهاجية العمل الاسلامى المشترك ..3



وما كان هذا التحذير من التطرف والغلو إلاّ لأن فيه عيوباً وآفات أساسية تصاحبه وتلازمه. منها:العيب الأول:أنه منفِّر لا تحتمله طبيعة البشر العادية، ولا تصبر عليه، ولو صبر عليه قليل منهم لم يصبر عليه جمهورهم، والشرائع إنما تخاطب الناس كافة، لا فئة ذات مستوى خاص، ولهذا غضب النبي صلى الله عليه وسلم على صاحبه الجليل "معاذ " حين صلى بالناس فأطال حتى شكاه أحدهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال له: أفتان أنت يا معاذ؟! وكررها ثلاثاً [رواه البخاري ].وفي واقعة مماثلة قال للإمام في غضب شديد لم يغضب مثله: "إن منكم منفرين... من أَمَّ بالناس فليتجوز، فإن خلفه الكبير والضعيف وذا الحاجة " [رواه البخاري ].ولهذا لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً وأبا موسى إلى اليمن أوصاهما بقوله: "يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا ... " [متفق عليه ].وقال عمر رضي الله عنه: لا تبغِّضوا لله إلى عباده، فيكون أحدكم إماماً فيطول على القوم الصلاة حتى يبغِّض إليهم ما هم فيه .والعيب الثاني:أنه قصير العمر، والاستمرار عليه في العادة غير متيسر، فالإنسان ملول، وطاقته محدودة، فإن صبر يوماً على التشدد والتعسير، فسرعان ما تكل دابته أو تحرن عليه مطيته في السير. . وأعني بهما جهده البدني والنفسي ، فسيأم ويدع العمل حتى القليل منه. أو يأخذ طريقاً آخر، على عكس الطريق الذي كان عليه.. أي ينتقل من الإفراط إلى التفريط، ومن التشدد إلى التسيب، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله.وكثيراً ما رأيت أناساً عرفوا بالتشدد والتطرف حيناً، ثم غبت عنهم أو غابوا عني زمناً فسألت عنهم بعد، فإما ساروا في خط آخر، وانقلبوا على أعقابهم، والعياذ بالله. . وإما قد فتروا وانقطعوا كالمنبت الذي جاء ذكره في الحديث "فلا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى " [رواه البزار عن جابر بإسناد ضعيف ] يريد بالمنبت الذي انقطع عنه رفقته بعد أن أجهد دابته.ومن هنا كان التوجيه النبوي بقوله صلى الله عليه وسلم : "اكلفوا من الأعمال ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا.. وإنّ أحبّ العمل إلى الله أدومه وإن قل " [رواه الشيخان وأبو داود والنسائي عن عائشة رضي الله عنها ].وعن ابن عباس قال: كانت مولاة للنبي صلى الله عليه وسلم تصوم النهار وتقوم الليل فقيل له: إنها تصوم النهار وتقوم الليل! فقال صلى الله عليه وسلم: "إن لكل عمل شِرَّة (حدة ونشاطاً ) ولكل شرة فترة (استرخاء وفتوراً ) فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد ضل " [رواه البزار ورجاله رجال الصحيح ].وروى أحمد عن عبد الله بن عمرو قال: ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجال ينصبون في العبادة من أصحابه نصباً شديداً، فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم : تلك ضراوة الإسلام وشرته، ولكل ضراوة شرّة، ولكل شرّة فترة.. فمن كانت فترته إلى الكتاب والسنة فلآمّ ما هو.. ومن كانت فترته إلى معاصي الله فذلك الهالك" (قال شاكر: إسناده صحيح )، ومعنى "لأمّ ما هو " أي يرجع إلى أصل ثابت عظيم أشار إليه بكلمة "آم " وتنكيرها دلالة التعظيم، وعلى الفتح "أم " من القصد.. أي قصد الطريق المستقيم.(وفي رواية الطبراني لهذا الحديث:... فمن كانت فترته إلى اقتصاد، فنعم ما هو... ومن كانت فترته إلى المعاصي فأولئك هم الهالكون ).وما أجمل الوصية النبوية العامة لكل المكلفين: الوصية بالقصد والاعتدال، وأن لا يحاولوا أن يغالبوا الدين، فيغلبهم، وأن يقاوموه بشدة، فيقهرهم، فقال صلى الله عليه وسلم: "إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلاّ غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا... " [رواه البخاري والنسائي عن أبي هريرة ].وقال العلامة المناوي في شرحه: يعني لا يتعمق أحد في العبادة ويترك الرفق كالرهبان، إلاّ عجز، فيغلب.. "فسدِّدوا " أي: الزموا السداد، وهو الصواب بلا إفراط ولا تفريط.. "وقاربوا " أي: إن لم تستطيعوا الأخذ بالأكمل فاعملوا بما يقرب منه "وأبشروا " أي: بالثواب على العمل الدائم وإن قل. أهـ .والعيب الثالث:أنه لا يخلو من جور على حقوق أخرى يجب أن تُرعى، وواجبات يجب أن تؤدى.. وما أصدق ما قاله أحد الحكماء: ما رأيت إسرافاً إلاّ وبجانبه حق مضيع... وقال صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو حين بلغه انهماكه في العبادة انهماكا أنساه حق أهله عليه: ألم أخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل؟قال عبد الله: فقلت بلى يا رسول الله.. فقال صلى الله عليه وسلم: لا تفعل، صم وأفطر، وقم ونم. فإن لجسدك عليك حقاً.. وإن لعينيك عليك حقاً.. وإن لزوجك عليك حقاً، وإن لزورك (زوَّارك ) عليك حقاً.. [رواه البخاري في كتاب الصوم ].يعني: فأعط كل ذي حق حقه، ولا تغلّ في ناحية على حساب أخرى. وكذلك قال الصحابي الفقيه سلمان الفارسي لأخيه العابد الزاهد أبي الدرداء، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم آخى بينهما، فزادت بينهما الألفة، وسقطت الكلفة، فزار سلمان أبا الدرداء، فوجد أم الدرداء - زوجته - متبذلة (يعني: لابسة ثياب البذلة والمهنة لا ثياب الزينة والتجمل كما تفعل المرأة المتزوجة ) فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا! فجاء أبو الدرداء فرحب بسلمان، وقرب إليه طعاماً فقال: كل، فإني صائم! فقال سلمان: ما أنا بآكل حتى تأكل. وفي رواية البزار: أقسمت عليك لتفطرن... قال: فأكل... فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم... فقال سلمان: نم.. فنام. ثم ذهب ليقوم، فقال سلمان له: نم، فلما كان آخر الليل قال سلمان: قم الآن... فصلَّيا، فقال له سلمان: إن لربك عليك حقاً، ولنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه... فأتى أبو الدرداء النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكر ذلك له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : صدق سلمان. [رواه البخاري والترمذي ] وفي رواية ابن سعد أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لقد أشبع سلمان علماً... ".ولكن ما معنى التطرف الديني؟ وما المقصود به الآن؟ وما معالمه؟ ومتى يعتبر المرء متطرفاً دينياً؟!
وأود أن أنبه هنا إلى ملاحظتين جديرتين بالاهتمام في موضوعنا:
الملاحظة الأولى:
أن مقدار تدين المرء، وتدين المحيط الذي يعيش فيه، من حيث القوة والضعف، له أثره في الحكم على الآخرين، بالتطرف أو التوسط أو التسيب.
فمن المشاهد أن من كانت جرعته من التدين قوية، وكان الوسط الذي نشأ فيه شديد الالتزام بالدين، يكون مرهف الحس لأي مخالفة أو تقصير يراه، حتى إنه ليعجب أن يوجد مسلم لا حظّ له من قيام الليل، أو صيام النهار، وفي هذا ورد القول المأثور:
"حسنات الأبرار، سيئات المقربين ".
ويحضرني هنا ما قاله أنس بن مالك لمعاصريه من التابعين: إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر، إن كنا لنعدّها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات!
وكانت عائشة رضي الله عنها تنشد بيت لبيد بن ربيعة:
ذهب الذين يعاش في أكنافهم وبقيت في خلف كجلد الأجرب!
وتقول: رحم الله لبيداً، كيف لو عاش إلى زماننا هذا؟ وكان ابن أختها عروة بن الزبير، وقد عاش بعدها زمناً، ينشد البيت، ويقول: رحم الله لبيداً وعائشة، كيف لو عاشا إلى زماننا هذا؟!
وفي مقابل هذا نجد الشخص الذي قل زاده من التدين علماً وعملاً، أوعاش في محيط تجرأ على محارم الله وتنكر لشرائعه، يعتبر التمسك بالحد الأدنى من الدين ضرباً من التعصب أو التشدد.
وكلما زادت مسافة البعد بينه وبين الدين، زاد استغرابه بل إنكاره، بل اتهامه لكل من يستمسك بعروة الدين، ويلجم نفسه بلجام التقوى، ويسأل في كل شيء يعرض له أو يعرض عليه: حلال هو أم حرام؟
وكثير من أولئك الذين يعيشون في أوطاننا بأسماء إسلامية، وعقول غربية، يعتبرون مجرد الالتزام بأوامر الله ونواهيه تطرفاً دينياً!
وكثير ممن غزته الأفكار والتقاليد الأجنبية يعتبر الذين يتمسكون بآداب الإسلام في المأكل والمشرب والملبس والزينة ونحوها، غاية في التطرف والتعصب!
لقد رأينا من يعد إطلاق اللحية من الفتى، أو التزام الحجاب من الفتاة، تطرفاً في الدين!
ورأينا من يعتبر الدعوة إلى تحكيم شريعة الله، وإقامة دولة الإسلام في أرض الإسلام، تطرفاً في الدين!
ورأينا من يرى الغيرة على الدين وحرماته، والأمر بالمعروف إذا ضُيِّع ،والنهي عن المنكر إذا وقع، تطرفاً في الدين، وتدخلاً في الحرية الشخصية للآخرين!
ورأينا من يرى أن اعتبار الآخرين من غير المؤمنين بدينه كفاراً، تعصب وتطرف، مع أن أساس الإيمان الديني أن يعتقد المؤمن أنه على حق، وأن مخالفه على باطل، ولا مجاملة في هذه الحقيقة.
والملاحظة الثانية:
أنه ليس من الإنصاف أن نتهم إنساناً بالتطرف في دينه لمجرد أنه اختار رأياً من الآراء الفقهية المتشددة، ما دام يعتقد أنه الأصوب والأرجح، ويرى أنه ملزم به شرعاً، ومحاسب عليه ديناً، وإن كان غيره يرى رأيه مرجوحاً أو ضعيفاً، لأنه ليس مسؤولاً إلاّ عما يراه ويعتقده هو، وإن شدد بذلك على نفسه، بل حسبه أن يرى أن ذلك هو الأفضل والأورع، وإن لم يكن فرضاً ولا واجباً، إذ كانت همته لا تقف عند حد الفرائض، وإنما يتقرب إلى الله تعالى بالنوافل حتى يحبه.
ومن حقائق الحياة، أن الناس يتفاوتون في هذه القضية، فمنهم المتساهل الميسر، ومنهم المتشدد المعسر، وقد كان في الصحابة المترخص كابن عبّاس، والمتشدد كابن عمر رضي الله عنهم.
ويكفي المسلم في هذا المقام أن يستند رأيه الذي تبناه إلى مذهب من المذاهب المعتبرة عند المسلمين، أو يعتمد على اجتهاد صحيح قائم على استدلال شرعي سليم؛ فإذا كان هناك من أئمة المذاهب المتبوعة من يقول بوجوب إعفاء اللحية وتركها وحرمة حلقها، فهل يوصف بالتطرف من اقتنع بهذا المذهب وأخذ به، وطبقه على نفسه لأنه خالف رأيي ورأيك ورأي زيد وعمر من العلماء، ولا سيما المعاصرين؟ وهل من حقنا أن نصادر حق امرئ في ترجيح رأي على آخر، وخاصة أنه يتصل بحياته وسلوكه هو، لا بحياة غيره.
إن جماً غفيراً من علماء السلف والخلف، رأوا أن على المرأة المسلمة أن تستر جميع بدنها ما عدا وجهها وكفيها، فقد اعتبروهما مما استثني في قوله تعالى: ((ولا يُبْدين زينتهُنّ إلاّ ما ظهر مِنْها )) [النور: 31 ]، وأكدوا ذلك بأحاديث ووقائع وآثار.. ورجح ذلك كثيرون من علماء عصرنا، وأنا منهم.
ولكن عدداً آخر من العلماء المرموقين، ذهبوا إلى أن الوجه والكفين عورة يجب سترها، واستدلوا على ذلك بنصوص من القرآن والحديث والآثار، وأخذ بقولهم كثيرون من علماء هذا العصر، وخصوصاً في باكستان والهند والسعودية وأقطار الخليج، وأرسلوا نداءاتهم إلى كل فتاة تؤمن بالله وباليوم الآخر، أن تلبس النقاب، ليستر وجهها، والقفاز ليستر يديها.
فهل تدمغ بالتطرف فتاة أو سيدة آمنت بهذا المذهب، واعتبرته جزءاً من دينها؟ أو يدمغ به رجل دعا إلى ذلك ابنته أو زوجته فاستجابت؟ وهل يحق لنا أن نجبر هذا أو ذاك أو تلك على التنازل عما يعتقده شرع الله، ونلزمه أن يبيع الجنة ويشتري النار إرضاءاً لخاطرنا، وفراراً من تهمة التطرف؟
ومثل ذلك يقال فيمن يتبنى الآراء المتشددة في الغناء والموسيقي والرسم والتصوير وغيرها، مما يخالف اجتهادي شخصياً في هذه الأمور، واجتهاد عدد من علماء العصر البارزين، ولكنه يتفق مع العديد من علماء المسلمين، متقدمين ومتأخرين ومعاصرين.
والواقع أن كثيراً مما ينكر على من نسميهم "المتطرفين " مما قد يعتبر من التشدد والتنطع، له أصل شرعي في فقهنا وتراثنا، تبناه بعض العلماء المعاصرين، ودافعوا عنه ودعوا إليه، فاستجاب لهم من الشباب المخلص من استجاب، رجاء في رحمة الله تعالى وخوفاً من عذابه، وذلك كلبس الثوب (الجلباب ) بدل القميص والبنطلون، وتقصيره إلى ما فوق الكعبين، والامتناع عن مصافحة النساء، وغيرها.
ومن هنا لا نستطيع أن ننكر على مسلم، أو نتهمه بالتطرف، لمجرد أنه شدد على نفسه، وأخذ من الآراء الفقهية بما يراه أرضى لربه، وأسلم لدينه، وأحوط لآخرته.
وليس من حقنا أن نجبره على التنازل عن رأيه ونطالبه بسلوك يخالف معتقده. كل ما نملكه أن ندعوه بالحكمة، ونحاوره بالحسنى، ونقنعه بالدليل، عسى أن يدخل فيما نراه أهدى سبيلاً، وأقوم قيلاً.

0 تعليقات:

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية