الأربعاء، 3 يونيو 2009

الطاغية والطغيان مولده ونشأته .. هذا يتحدث التاريخ على مر العصور

" وقال فرعون : يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غير … "(سورة القصص، آية 38)."ما من مستبد سياسي إلا ويتخذ له صفة قدسية يُشارك بها الله أو تُعطيه متاعاً ذا علاقة بالله"(عبد الرحمن الكواكبي – طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، ص44).لا يكاد يذكر المرء مصطلح "الطاغية" والاستبداد السياسي حتى تتجه نظراته صوب العالمين العربي والإسلامي حيث يقرنه مباشرة بالحضارات الشرقية القديمة والوسطى والمعاصرة في قارتي أسيا وإفريقيا، فصور الاستبداد السياسي بقيت مرافقة للتطور البشري منذ العصور القديمة حتى العصر الحالي لكل الأمم والشعوب التي نشأت وقطنت في الشرق، خاصة المنطقة العربية.ولعل المفكر اليوناني أرسطو أفضل من عبر عن هذه الحقيقة قبل الميلاد بقوله في كتابه "السياسة" : "يتمثل الطغيان بمعناه الدقيق في الطغيان الشرقي، حيث نجد لدى الشعوب الآسيوية –على خلاف الشعوب الأخرى- طبيعة العبيد، وهي لهذا تتحمل حكم الطغاة بغير شكوى وتذمر … ". ما سبق يدفع للسؤال عن مبرر وجود السلطة المفروضة على الإنسان عموما، فهل السلطة ضرورة حتمية للبشر ؟ الواقع أن الناس لا تصلح أن تكون في فوضى، فالسلطة تعمل على تنظيم هؤلاء الناس وتسد احتياجاتهم بصورة أو بأخرى، وهذا يعني أن التنظيم عبر السلطة يقسّم الناس إلى فئتين : فئة حاكمة تتولى السلطة السياسية وتصدر القرارات وفئة أخرى محكومة لا يكون لها سوى الطاعة والتنفيذ، وهكذا توجد السلطة عند مولد الجماعة البشرية، لأنه بغير سلطة لن يتحقق النظام.وإذا كانت السلطة ضرورية، فإن الحفاظ على حريات الأفراد وحمايتهم فكرياً وجسدياً يصبح أكثر ضرورة من السلطة ذاتها، لأن الشعوب -لا السلطة- هي من تخلق الحضارة وتسجل التاريخ وتعمّر الأرض، وقديماً كان مفهوم السلطة هو القوة والجبروت للحاكم، وخصوصاً في الشرق، ولكن ما المبرر ؟؟ وكيف يمكن أن نتصور أن تكون إرادة المحكومين خاضعة للحاكمين، وهما من طبيعة بشرية واحدة.لقد كانت أول إجابة طرأت على ذهن الإنسان في تلك العصور هو أنه لا بد أن تكون سلطة الحاكم من طبيعة غير بشرية، بمعنى آخر هو "مبعوث العناية الإلهية". هكذا تصوّر الناس قديماً، وهكذا كان الحاكم في الشرق، وهذه الصفة قد تكون ظاهرة مباشرة مثلما كان "فرعون مصر" آنذاك، وقد تكون غير مباشرة ولكنها بارزة في سلوك الحكام، فهو على أقل التقدير " لا يسأل عما يفعل وهم يُسألون … " وهذا ما فعله جميع الطغاة على على مر التاريخ، ولذا فإن صورة التأليه للحاكم في الشرق ظهرت جلياً عند المصريين القدامى، وفي بابل، وفارس، والصين … إلخ.وبقيت هذه النظرية الثيوقراطية هي التي تبرر اطلاق يد الحاكم في السلطة باسم شخصيته المقدسة، إلى أن ظهرت نظرية العقد الاجتماعي التي تفسر أن العلاقة بين السلطة والشعب هي علاقة تعاقدية تتم بموجب واجبات وحقوق لكلا الطرفين بناءً على عقد يلتزم فيه الجانبين، ومعايير سياسية واجتماعية تتفق مع رغبة الشعب.ورغم تعدد الآراء حول آلية إنشاء أو إقامة العقد الاجتماعي بين المفكرين الذين تبنوا هذه النظرية، إلا أنها اعتبرت بحق الأكثر قرباً إلى الحقيقة في فلسفة السلطة وصلاحياتها، وعلى الرغم –كذلك– من أن هذه النظرية حديثة النشأة، إلاّ أن واقع تطبيقها كان في العصور الوسطى وخصوصاً في الدولة الإسلامية الأولى التي أنشأها النبي محمد (ص)، حيث أن الحديث الكريم الذي يقول " كلكم راعٍ وكلكم مسؤولٌ عن رعيته " يعطي البذور الأولى لمفهوم العقد الاجتماعي، وكذلك في عهد الخلفاء الراشدين حيث أن التزام السلف الصالح في السير على سنة الرسول الكريم في طريقة الحكم القائمة على أساس "البيعة" هي بالضرورة تنم عن قيام أركان العقد الاجتماعي بين الحاكم والرعية، وهي تأكد أن ضرورة السلطة آنذاك جاءت بالموافقة الجماعية على الحاكم، فأصبحت سلطة لها الحق في اصدار الأوامر، ورعية عليهم الواجب في التنفيذ وكلّه في اطار ذلك الدستور الإسلامي (القرآن والسنة) المنفرد والمتميز في نوعه.وإذا ما استثنى الكاتب هذه المرحلة المشرقة من التاريخ العربي خصوصاً، فإنه يجد أن ما اُنجز في سبيل الحرية والتعبير والحفاظ على كرامة الانسان بعد هذه المرحلة كان وهماً وسراباً وضرباً من ضروب الخيال، حيث عادت السلطة المطلقة لتحكم من جديد، ولبس الطاغية عباءة الدين في كلا الحضارتين الإسلامية والمسيحية، وما يهمنا هنا هو في الحضارة الإسلامية بالطبع.تبدأ صورة الطغيان الشرقي بالظهور مع تحول الخلافة الإسلامية إلى ملكية مستبدة منذ عهد الأمويين، فالأمويون استولوا على الملك عنوة، وهذا ما يقوله معاوية صراحةً في يوم توليه الحكم "أما بعد فإني والله ما وليتها لمحبة علمتها منكم، ولا مسرّة بولايتي، ولكني جالدتكم بسيفي مجالدة … " فهو إذن منذ البداية ينفي أنه تولى الحكم برضا الناس، بل ويستخف بهذا الرضا كذلك.معاوية هو أول من جعل الخلافة ملكية وراثية في عائلته دون أن يكترث برأي الناس !! ثم توالى الطغاة في عهد الأمويين، ومعظمهم على نفس الوتيرة والنسق، ويكفي الحديث في هذا الصدد عن " يزيد بن معاوية " الذي كان "ولياً للعهد" آنذاك، حيث أُخذت له البيعة رغماً عن الناس وبحدّ السيف للمعارض، فأصبحت معهم البيعة مجرد اجراء شكلي أقرب إلى ما يكون " للاستفتاءات " العصرية التي يجريها الرؤساء في البلاد الشرقية عموماً والعربية خصوصاً، وتكون نتيجتها "99.9 %".ويذكر "السيوطي" في كتابه "تاريخ الخلفاء" أن ليزيد بن معاوية نقاط سوداء كثيرة في تاريخه ولا أدل على ذلك من واقعة " الحرّة الشهيرة " التي قُتل فيها عدد كبير من الصحابة ونهبت المدينة، وافتضّ فيها ألف عذراء، تلك المدينة التي قال عنها الرسول الكريم "ومن أخاف المدينة أخافه الله ولعنته الملائكة ". وفي عهد العباسيين حدث بلا حرج، فالسفاح هو أول خلفاء بني العباس، واسمه كافٍ للحديث عن وصفه، وكفى ما قاله يوم توليه الحكم "استعدوا فأنا السفّاح المبيح والقائد المبيد"، ثم يطل علينا أبو جعفر المنصور، ليبدأ عهده بخطاب يحدد من خلاله برنامجه السياسي يقول فيه "أيها الناس، إنما أنا سلطان الله في أرضه، أسوسكم بتوفيقه وتسديده … " ولا إشكال في أن يستشير المنصور، فما خاب من استشار، ولا مانع مثلاً أن يلقي بعمه في السجن ويرسل إليه يأخذ برأيه !! ولا مانع أن يسفك دماء الناس لأتفه الأسباب، وأن يغدر بمن آمنه، وأن يعذب ويسجن أبي حنيفة، كل ذلك فعله –وأكثر- المنصور خلال خلافته.ما سبق مجرد نماذج مختصرة من الحكم العربي الإسلامي في العصور الوسطي لواقع تغيب فيه الرقابة والمحاسبة، وتنتفي فيه حرية الرأي والمعارضة، ويكون فيه الحاكم ممسكاً بالسيف في يمينه والمال في يساره، ولا نجد أمامنا سوى استبداد مطلقاً وطغياناً أحمقاً … !!.ولان التاريخ يعيد نفسه –عند العرب فقط- ستجد أحوال الرعية والعباد واستبداد الحكام بهم في العصر الحالي صورة مكررة للماضي، فما أشبه الليلة بالبارحة، وما أشبه اليوم بالغد.بيد ان مبرر الطغيان اليوم اختلف عن الأمس، فالمبرر الذي يدعم طغيان المستبدين في هذا العصر لم يقف عند العباءة الدينية التي يرتديها الطاغية أحياناً، وإنما تجاوزه المستبد السياسي بصور أقوى دلالة وتأثير، فهو"المنقذ" و "الزعيم الأوحد" و "القائد الملهم" و"المخلِّص " والرئيس الذي نفتديه "بالروح والدم"، ولطالما ألفنا الطاغية لآلاف السنين فلم نعد نجد غضاضة ولا حرجاً في الحديث عن "إيجابياته" وما فعله من أجلنا من عظيم الأعمال. يقول أحد طغاة مصر في العهد الملكي البالي "لن أستريح حتى يأكل الملايين الثلاثون –وهم سكان مصر في أيامه– من يدي هذه"، أي أن يكون هو المعطي والواهب، ولا معطي ولا واهب غيره، ويكون هو الباسط والقابض فلا رزق ولا مال إلاّ من كفه !!. والطاغية العربي الحديث – كالطاغية الشرقي القديم والوسيط – يعمل على تطهير جسم الدولة من الشرفاء والأمناء والمخلصين والمفكرين والشجعان الذين يرفضون نفاقه، وبالمقابل يُبقي ما هو ضار ومنافق بنفسه ولشعبه عليةٍ للقوم وبطانة حاشيته. وتكررت صورة ما فعله العباسيين من نبش قبور الأمويين بعد القضاء عليهم لتشويههم، وهم موتى، مرة أخرى في أكثر من دولة عربية "ثورية" –العراق وسوريا- حيث قامت هذه الأخيرة، بضرب قرى وقبور كاملة بالطيران والغازات السامة، وعملت على نبش القبور واخراج الجثث وعظام الموتى، لإلقائها في البحر، بحجة أن تراب الوطن لا يأوي الخونة … أليس تاريخنا واحداً متصلاً غير منقطعاً!والطاغية العربي – كغيره من الطغاة – لا يحبذ أن يكون هناك حرية في التعبير حتى لو كان ذلك في مصلحته، لأنه يضر بأمنه الشخصي ويؤثر في نفسيته المريضة، ولذا عندما دخل الشعب المصري في عهد الناصرية، فرض عبد الناصر الاستبداد السياسي والعسكري والرقابة على الصحف اليومية، وعلى كل صورة من صور الحرية، فأصبح لمصر سيداً واحداً وناصراً واحداً.وكان الأخوان في أول الأمر شركاء لعبد الناصر، فلما تم له النصر بعد حادث المنشيّة عام 1954م، قضى على كل من تبقى، ولم يُبقي إلا الشيخ الباقوري الذي سار على هوى التيار الناصري، واستلم وزارة في حكومته المستبدة آنذاك، ومن مآثر عبد الناصر أيضاً عصفه وبدون رحمة بكل من أيّدوه من كبار الصحفيين، وعلى رأسهم محمود وأحمد أبو الفتح، ومصطفى أمين وغيرهم الكثير.ولما كان الطاغية مريضاً نفسياً، فإنه يشعر بأن كل من حوله خونة له، ولذا عليه أن يحمي نفسه من شرهم وخيرهم، وتجده يصنف أشكالاً وألواناً من أجهزة المخابرات الداخلية لا تعد ولا تحصى، وهدفها الأساس هو حمايته وصون استبداه الأحمق، وبدل أن يكون الجيش وقواته العسكرية تعمل على حماية نظامه وشعبه من أي عدوان خارجي، فإنه يصنع منه جيشاً للدفاع الشخصي، ويتحول من أداة للسياسة الخارجية، إلى أداة للحرس الشخصي، ويزرع جواسيسه في كل بقعة من بلاده، كي يضمن ولاء الشعب له بالقوة وبالقهر.والطامة الكبرى أن البعض يتحدث عن ايجابيات الطاغية بفخر، فهو رغم طغيانه إلا انه حقق تنمية اقتصادية ووزع ثروة البلاد على العباد لكن مشكلته الوحيدة انه يقتل الناس بلا حساب أو عقاب !!، وماذا تفيد ايجابياته إذا كان ثمنها هو تدمير الإنسان، وإهدار دمه وشرفه، أيكون ما فعله الطغاة الحاليين من ايجابيات أكثر مما فعله "هتلر" لألمانيا، حين اجتاح أكثر من نصف القارة الأوروبية في ساعات قلائل وترك ألمانيا تحتلها أربع دول !! فما قيمة إيجابياته إذا كانت نتيجتها ضياع الإنسان أصلاً ؟!لكن ما الحل... الحل فيما قاله الأديب " فرنسوا كيناي " في حواره التالي : ماذا تفعل لو كنت زعيماً … ؟؟ لا أفعل شيئاً … ! ومن الذي يحكم … ؟؟ القوانين … !!… وهو المطلوب

0 تعليقات:

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية