عدد الأقباط
في كل إحصاء رسمي، تراوحت نسبة الأقباط بين 6% و8%، حتى في زمن الاحتلال البريطاني لمصر. ولكن الاحتلال نفسه لم يسلم من اتهام من جانب بعض الأقباط بأنه زور الإحصاء. فما بالنا بإحصاءات الحكومات المصرية المتعاقبة بعد ثورة يوليو، فكل إحصاءاتها نالها اتهام من بعض الأقباط بأنها غير حقيقة. ولكن الأمر اختلف، فأصبح غالب الأقباط يرفضون الأرقام المعلنة عن عددهم في مصر. وحتى عندما جاء تقدير لعددهم من هيئة أجنبية، رفضوا أيضا هذا التقدير. واشتعلت حرب حول نسبة مسيحي مصر. ورأى بعض المراقبين، أن النسبة يمكن أن تصل إلى 10%، إذا كان هناك بعض الأسباب التي تؤدي إلى وجود أخطاء في الإحصاء. وقبلت الحكومة المصرية تلك النسبة وروجت لها. ربما لأنها يمكن أن تقبل، ولا تستفز المشاعر. وكأن عدد الأقباط قد أصبح قضية شائكة، لا تحكمها القواعد العلمية للإحصاء، بقدر ما تحكمها اعتبارات اجتماعية وسياسية. مما جعل الحكومة المصرية ترفض إعلان عدد مسيحي مصر، رغم أنها بالطبع تعرف العدد، على الأقل من الرقم القومي.
فما هي حقيقة المشكلة؟ فمهما كانت نسبة الأقباط، فهم جزء أصيل من الجماعة المصرية، وهم فيها عبر العصور والقرون. ومسيحيو مصر جزء من سبيكة مجتمع، عرف التعدد في الأديان منذ قرون، كما عرف تعدد في جوانب أخرى. فأصبحت الجماعة المصرية الوطنية، هي تلك الجماعة المتجانسة، والمتنوعة في نفس الوقت. ونسبة المسيحيين في مصر، لا تؤثر على حقيقة وجودهم، ولا على دورهم. كما أن العدد لا يعطي حقا أو يسحب حقا، فإذا زاد أو قل، فلن يغير هذا من تركيبة المجتمع المصري. فلا يمكن سحب حق من جماعة لأن نسبتها قلت عن حد معين، أو إعطائها حقا جديدا لأن نسبتها زادت عن حد معين. ولعبة النسب لا تستخدم بين المكونات الاجتماعية للمجتمع، بل تستخدم فقط بين الأحزاب السياسية، حيث تحدد نسبة للحسم، تسمح للحزب الذي تجاوزها بدخول المجلس التشريعي. فهل أصبحت نسبة الأقباط في مصر، مثلها مثل نسب الانتخابات بين الأحزاب، أو هل أصبح مسيحيو مصر حزبا؟
فلا يوجد تفسير لظاهرة الخلاف حول نسبة الأقباط، إلا في فكرة الحصص السياسية الطائفية. فتلك الفكرة فقط، هي التي تبرر كل هذا الجدل حول نسبة الأقباط. فإذا اعتمد نظام الحصص الانتخابية، يصبح الاتفاق على نسبة الأقباط ضروريا ومؤثرا. فكلما زادت نسبتهم، زادت حصتهم. ومن تلك الرؤية، يتحول الأقباط إلى حصة في المجتمع، حصة من المناصب العامة، وحصة من المقاعد البرلمانية، وحصة من الحياة كلها. وهنا تبرز الطائفية السياسية، التي تستند على بناء المجال السياسي على التقسيم الطائفي. وبدلا من التنافس بين الأحزاب في المجال السياسي بناء على مشاريعهم، يصبح التنافس بين الطوائف تبعا لأعدادهم. وتلك الطائفية السياسية، تجعل المجال السياسي بلا سياسة، وتجعله مجالا لتوزيع الحصص بين السكان، بغض النظر عن اتجاهاتهم السياسية. والطائفة تمثل كيانا اجتماعيا، يقوم على أساس الدين أو المذهب، أو غيرها من العوامل الاجتماعية والثقافية. ولكن الطائفة ليست كيانا سياسيا، ولا تحمل رؤية سياسية بعينها. فداخل الطائفة الواحدة، تتعدد الآراء السياسية وتتباين. وعندما تتحول الطائفة لكيان سياسي، فإنها تفرض موقفا سياسيا على كل المنتمين لها، رغما عنهم. وتصبح قيادة الطائفة هي قيادة سياسية، وهي التي تحدد المواقف السياسية. ولأن الطائفة ليست بناءا سياسيا، لذا تتحول مواقفها السياسية إلى حسابات تقوم على تحالفاتها مع الكيانات الأخرى، مما يجعل الطائفة تغير موقفها السياسي من النقيض إلى النقيض، حسب حساباتها وتحالفاتها. فالطائفة ليس لها موقف سياسي مبدئي. ومن يحاول زرع نظام الطائفية السياسية، يعرض أبناء الطائفة أنفسهم لهيمنة الطائفة عليهم، بحيث لا يعود للفرد أي دور سياسي. فعندما ينظر الأقباط لأنفسهم على أنهم طائفة سياسية، عندئذ يفقد الأقباط فرصتهم في العمل السياسي، وحقهم في اختيار التوجه السياسي، وحقهم في الانتماء لأحزاب سياسية مختلفة. فالطائفية السياسية، ونظام الحصص السياسي، ينتقص من قدر المواطن المسيحي، ويجعله مواطنا في الطائفة، التي تعبر عنه وتمثله، وينتهي الانتماء المباشر بين الفرد والدولة. ويصبح مواطن الطائفة منتميا للطائفة، والتي تنوب عنه في الانتماء للدولة.
والطائفية السياسية، تفسد الحياة السياسية كلها. فالمجال السياسي يقوم على تعدد المشاريع السياسية، ولا يقوم على تعدد الطوائف والمذاهب. أما المجتمع، فيقوم على التعدد الديني والاجتماعي والثقافي. والفرق بين التعدد في المجتمع وبين التعدد في السياسة كبير. فتعددية المجتمع تشمل كل جوانب الحياة، من المستوى التعليمي إلى الوضع الوظيفي والاقتصادي، بجانب الديني والمذهبي والفكري. ولكن تعددية السياسة، تقوم فقط على التعدد في الرؤى السياسية. وكل تجارب الطائفية السياسية، ثبت أنها تنتهي بمجال سياسي ضعيف، ودولة أضعف. فمع الطائفية السياسية، تزداد احتمالات النزاع الطائفي ولا تقل. لذا نقول: أن أي تحول نحو الطائفية السياسية، هو تكريس لوضع طائفي، وتكريس لحالة النزاع الطائفي، لدرجة تجعل النزاع الطائفي حالة مؤسسية، مما يُعَجل من تفاقم الوضع بين الطوائف، ويمهد الأرض لقيام حالات نزاع طائفي أسوأ. فمن يريد حل مشكلة الغياب النسبي للأقباط في المجال السياسي، من خلال نظام الحصص السياسية، كمن يريد تكريس مشكلة الدور السياسي للمسيحيين في مصر، وتكريس مشكلة النزاع الطائفي وأحداث العنف المتكررة، فتدخل مصر في حزام الصراعات الأهلية، العنيفة والمسلحة.
0 تعليقات:
إرسال تعليق
الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]
<< الصفحة الرئيسية