الفتيكان وبندكت والاحتواز وسرقة الاموال , فضائح النصارى (4)


4)البابا و"الآخر":
ـ خلّف الكاردينال راتسنجرنتاجاً وفيراً من الافكار والمواقف، لعل محاضرته في "الايمان والعقل وذكريات الجامعة" (أيلول/ سبتمبر 2006)[2] والتي تعرض فيها للاسلام، وخطابه (أيار/مايو2007) الذي عالج فيه شؤون اميركا اللاتينية، محطتين تستدعيان وقفة خاصة لما أثارتهما من خلاف وجدل ولما تحتوياه من دلالات ومؤشرات على مواقف ومفاهيم هذا البابا.
البابا والاسلام
أثارت هذه المحاضرة العديد من ردود الفعل الغاضبة فكتب فيها وقيل الكثير. ودون العودة الى تكرار ذلك، يجدر بنا أن نشير الى أمرين:
1) دون التقليل من ردود الفعل التي أثارتها تلك الحاضرة، بل إحترازاً من عدم التقوقع في الذات العربي والاسلامي وعدم رؤية الصورة الكبرى، فانه لا بد من التذكير بأن أجندة البابا (السياسية واللاهوتية) تتجاوز العرب والاسلام لتصب في خدمة مصالح وسياسات الغرب الراسمالي المعولم.
2) لم يصف البابا الاسلام في محاضرته تلك بانه "ديانه عنيفة" بل جاء بإستشهادات قد توحي بذلك. وكان الحري بنا ان نلتفت الى كنه ما يريد أن يقوله، وان لم يقله صراحة. لقد أراد البابا أن يوحي بان المسيحية (بالمقارنة بما جاء به من إستشهادات حول الاسلام) هي ديانة متسامحة ومسالمة. والمسيحية هذه هي ديانه اوروبا (اوروبا المسيحية). وقوله هذا هو صدى لدعوات عديدة ومواقف مشابهة تكررت، وما زالت، في اوروبا. إضافة الى أن هذه المحاضرة جاءت في سياق الحملة الغربية (الاوروبية ـ الاميركية) ضد حركة المقاومة الاسلامية (حماس) بعد فوزها في الانتخابات الفلسطينية (يناير 2006) ناهيك عن الذراع الصهيوني في تلك الحملة.
الشعوب الهندية الاصلية نموذجاً
في خطابه بمناسبة إفتتاح مؤتمر أساقفة أميركا اللاتينية[3] (مايو 2007)، رشق البابا بسهامه الشعوب الهندية الاصلية في اميركا اللاتينية مستهدفاً معتقداتها الدينية وتاريخها الطويل والمرير، ولم يتوقف عند المسائل اللاهوتية بل تطوع ليستعرض آرائه في تاريخ تلك القارة بوقائعه ومستهتراً بكرامة وذاكرة شعوبها. ونظراً لدلالاتها البالغة الاهمية، نعرض فيما يلي العناوين الرئيسية لما قاله البابا بندكت السادس عشرحول الحقبة الكولونيالية التي تلت "إكتشاف العالم الجديد" وغزوات كولومبس وجرائم المسيحية الاوروبية[4] بحق الملايين من شعوب تلك القارة عبر القرون الخمسة الاخيرة.
1) إدّعى البابا ان السكان الهنود الاصلانيين في القارة الاميركية قد "رحبوا" بالكهنة الذين رافقوا الغزاة الاوروبيين، وان هذه الشعوب كانت "تتوق صامتةً" للمسيحية.
2) كما إدّعى ان الكاثوليكية "صاغت ثقافة أميركا اللاتينية على نحو إيجابي".
3) قال:"في الواقع، ان قدوم المسيح وإنجيله لم يتسبب، في أية لحظة، بالاغتراب [أي إغتراب السكان الاصليين] عن ثقافات ما قبل الحقبة الكولومبية [نسبة الى كريستوفر كولومبسِ] كما أنه لم يشكل فرضاً قسرياً لثقافة أجنبية".
4) وقال، منتحلاً حق التكلم باسم الشعوب الاصلية، إن "يوتوبيا إعادة إحياء الديانات التي سادت حقبة ما قبل كولومبس، بفصل هذه الديانات عن المسيح والكنيسة، لن تشكل، من منظور السكان الاصليين، خطوة الى الامام، بل هي خطوة الى الخلف، لان هذه الشعوب قد "حققت مزيجاً بين ثقافتها والعقيدة المسيحية التي حملها لهم المبشرون". أي أنه إعتبر محاولة الشعوب الاصلية للحفاظ على هويتها وتاريخها وتراثها نكوصاً وخطوة الى الوراء.
5) وفي محاولة للإفتراء على التاريخ، يستعصي تبريرها أو فهمها، إنصرف البابا ليدعي أن إعتناق هذه الشعوب للكاثوليكية لم يكن نتيجة الغزوة الاوروبية والاستيلاء على اراضيهم، بل "تبنياً" لهذه الديانة جعل من ثقافتهم ثقافة "مثمرة" وعمل على "تطهيرهم". ثم تابع إفترائه قائلاً بان الكنيسة لم تفرض نفسها قسراً على الشعوب الاصلية وبان المسيحية "لم تضر بنمط حياتهم".
6) كال البابا في خطابه النقد للقادة الوطنيين المدافعين عن العدالة الاجتماعية (يقصد بالطبع الرئيس الفنزويلي تشافز والكوبي كاسترو والبوليفي موراليس وغيرهم مما يدافعون عن مصالح شعوبهم ضد النهب الامبريالي).
7) وكعادته، لم يتورع البابا عن أن يختم خطابه، الذي عجّ بالتناقضات والتحريفات التاريخية المحسوبة مسبقاً وبدقة، بالدعوة الى "الحوار بين الحضارات والاديان".
رد الشعوب الاصلية: لا خيار سوى المقاومة
جاءت ردود الشعوب الهندية الاصلية في القارة اللاتينية على تصريحات البابا بندكت السادس عشر لتدينها وتعريها وتضعها في سياقها التاريخي والسياسي، ولتلقي إضاءات على العديد من القضايا الاساسية. نوجز في السطور التالية العناوين الرئيسية لبعض نماذج هذه الردود:
1) ثيولوجيا الابادة: لقد تواطئ ممثلو الكنيسة الكاثوليكية عبر التاريخ، مع بعض الاستثناءات، على تغطية جرائم إبادة السكان الاصليين، التي بدأت منذ 515 عاماً، بل كثيرا ما إنتفعوا منها. فقد أباد الاوروبيون البيض أكثر من سبعين مليوناً من الهنود الامريكيين بحجة انه "لا روح لهم". وتسائل ممثلو الشعوب الاصلية: "إذا ما كان الله، الذي يدّعي البابا أنه يمثله، يوافق حقاً على إرتكاب هذه الجرائم ضد الانسانية؟" وأضافوا " لم يكن هؤلاء ممثلي يسوع المسيح، كما ان إلههم كان متعطشاً للدماء وللثروات التي نهبوها بالعنف ..."
2) المركزانية الاوروبية: "هل يعقل ان تعريف الله ما زال، في القرن الواحد والعشرين، يتم حسب المعاييرالاوروبية؟ على البابا ان يعلم أنه قبل أن يصل الكهنة الكاثوليك وانجليهم الى القارة الاميركية، كان للشعوب الاصلية في تلك القارة ربهم وكانت كلمته هي التي ترشد حياتهم".
3) خصخصة الله: "لا يجوز ان تنحصر كلمة الله في كتاب،[يقصدون الانجيل] ولا يجوز لاية ديانة ان تحاول خصخصة الله".
4) الاصرار على المقاومة: أكدت الشعوب الاصلية في ردها ان "ديانتنا لم تمت قط، فقد تعلمنا كيف نمزج بين معتقداتنا ورموزنا من جهة، وتلك التي أحضرها الغزاة المضطهدون من جهة اخرى"، لذا "نستمر في زيارة معابدنا، لاننا نعلم أنها ترقد تحت الكنائس الكاثوليكية. هناك ترقد أماكننا المقدسة التي دمروها بذريعة بناء معتقدات جديدة. لقد حاولوا تدمير معتقداتنا ولكنهم لم ينجحوا في ذلك... ".
5) على الصعيد السياسي:
أ ـ أكدت الردود أن البابا تناول في مواقفه قارة تعيش أزمة إجتماعية وإقتصادية خانقة حيث تزداد الفجوة بين الفقراء والاغنياء عمقاً كل يوم وحيث فشلت المسيحية، التي جاء البابا ليمثلها، "في ان توفر حياة عادلة وكريمة" لسكانها.
ب ـ رفضت هذه الردود بوضوح "النظام النيوليبرالي الراسمالي الجشع".
ت ـ "نرفض التوافقات السياسية والدينية بين بوش والبابا في ‘تجريم‘ نضال الشعوب المضطهدة".
ث ـ طالب الرئيس الفنزويلي تشافز البابا بالاعتذار الى الشعوب الاصلية وإتهمه بتجاهل الهولوكست الذي تلى اكتشاف كولومبس "للعالم الجديد" عام 1492، مؤكداً ان إبادة الشعوب الاصلية في القارتين الاميركيتين " أمر أكثر خطورة من هولوكست الحرب العالمية الثانية".
تجاهل لحقائق التاريخ أم تحريف؟
لا تعبر تصريحات البابا هذه عن إساءة فهم بريئة، بل هي تشويه للتاريخ وحقائقه المعروفة وتحقير لتلك الحضارات والديانات التي سبقت المسيحية (وغيرها من الديانات التوحيدية) بآلاف السنين، كما انها تنطوي، وهو الاهم، على تنكر للمذابح والابادة العرقية الجماعية التي ارتكبت بحق الملايين من الشعوب الاصلية في شمال ووسط وجنوب الاميركيتين.
تَغافَل البابا عن دور الفاتيكان وحاول تزوير سياساته منذ القرن الخامس عشر حيال غزو المسيحية الاوروبية "للعالم الجديد" وإرغام السكان الاصليين على إعتناق المسيحية. إلاّ أن تصريحاته، على ما فيها من تعسف بالتاريخ، تأتي أيضاً لتدير ظهرها للتطورات والتغيرات السياسية الراهنة التي تجتاح القارة اللاتينية كما تأتي في سياق محاولة إجهاض تأثيرات النهوض الشعبي والثوري وإنتفاضة الشعوب الاصلانية للدفاع عن حقوقها وكرامتها.
أما تنكر البابا لفرض المسيحية عنوة على الشعوب الهندية الاصلية، فهو إفتراء يفنده تاريخ هذه الشعوب النابض بالنضال والمقاومة والصمود على مدى خمسة قرون. ولكن، هل يعقل ان البابا يجهل حقائق التاريخ؟ واذا صحت مقولة أن المسيحية لم تُفرض قسراً على تلك الشعوب، فكيف نفسر جرائم الاضطهاد والابادة للملايين منهم؟ وكيف لنا أن نفسر لوذ هؤلاء السكان بالجبال والادغال فراراً من القتل والاضطهاد الاوروبي المسيحي ودفاعاً عن معتقداتهم وثقافاتهم وسعياً وراء حرية ممارسة شعائرهم الدينية.
في تقديرنا، ان هذا التنكر يغوص الى غايات اخرى، أكثر عمقاً:
أ ـ فهو يهدف الى محو ثقافة هذه الشعوب العريقة وما إزدهر حولها من ديانات ومعارف إنسانية كي يبرر إلغاء "الآخر" تمهيداً لإحلال ثقافة رأس المال وعولمة النظم القيمية للاستهلاك الراسمالي محل تلك الثقافات المحلية والاصيلة.
ب ـ وفي أبعادها التاريخية والسياسية (والتي هي أعمق من الدلالات الدينية)، فان المدلول العملي لهذه الاقوال هو إنكار للاستعمار الغربي والهيمنة الغربية الراسمالية على شعوب تلك القارة (وبالمعيار ذاته على كافة الشعوب المضطَهدة) ونهب مواردها والتحكم بمستقبلها. وهذا هو تحديداً ما قصده الرئيس الفنزويلي تشافز في معرض نقده للبابا، عندما دعا شعبه الى تحدي الهيمنة الراسمالية هذه و"خلق المجتمع الجديد".
ت ـ يشكل تمادي البابا في التنكر لفرض المسيحية عنوةً على الشعوب الهندية الاصلية، وما يلازمه من تنكر لجرائم تلك الحقبة، في أبعاده الحضارية والثقافية، نموذجاً للفوقية والعنجهية الاوروبية البيضاء.
(5)
إشكاليات
ينطوي الحث في الفاتيكان ومواقفه على عدة أشكاليات عدة تتمثل في موقع الفاتيكان ودوره في التاريخ وفي السمات التي تميز بها على مدى قرون طويلة. وفيما يلي نذكر بعضاً من هذه الاشكاليات التي يجدر الالتفات اليها:
الفاتيكان وتدمير الوعي
إضافة الى الوظيفة السياسية التي كثيراً ما تكون خفية، فان تأثير الفاتيكان يظل كبيراً ومهيمناً في مجال تكوين الرأي العام والوعي الشعبي المسيحي. ويتجلى هذا في تدمير الوعي الشعبي الجمعي والترويج للقيم والثقافة الراسمالية والاستهلاكية والتأسيس لوعي مسيحي غربي يستدخل الراسمالية والامبريالية في وعيه ويبرر هيمنتها وحروبها ووحشيتها. وهي أجندة لا تقتصر على معاداة الآخر (غير الكاثوليكي أو غير المسيحي)، كما قد يرشح من أقوال البابا واللغو الفاتيكاني حول "الاخلاقية"، بل هي تذهب الى الأبعد لتصطف، دون غبش، في معسكر الغرب الراسمالي ومصالحه. وهي أجندة يسهل إستقراؤها من رصد تحركات الفاتيكان ومواقفه.
الفاتيكان فوق المسائلة
يتميز الفاتيكان، كمؤسسة تجمع الوظيفتين الدينية والسياسية، بمواطن قوة لعل أشدها خطورة وسطوة هو إستثناء هذه المؤسسة من المحاسبة والشفافية وإعفائها من المسائلة. فلا أحد يجرؤ على مسائلة البابا أو مسؤولي الفاتيكان أو تقديم أحدهم للمقاضاة. ويعني هذا، بالمدلول العملي، أن البابا قد ضمن لنفسه "مناعةً"، بالمعنى المجازي، في شؤون المجتمع والسياسة والاقتصاد تشكل إمتداداً لعصمته في شؤون العقيدة المسيحية، وهي العصمة التي يقرّ بها الملايين من أتباع الكنيسة الكاثوليكية. وإن لم يكن الامر كذلك من الناحية الرسمية، ومن حيث "النص"، فهو كذلك على الاقل في ذهنية هؤلاء المؤمنين. والى هذه المناعة والحصانة المتقنة ن يعود الفضل في تمكّن الفاتيكان، عبر القرون، من تنفيذ السياسات والمخططات التي تحقق مصالحه دون مسائلة أو محاسبة. وليس هناك ما يشير بان البابا الراهن سيتوانى عن إستخدام كل ما لديه من ذخيرة ثيولوجية "وربانية" وسياسية في تحقيق أجندته.
إعتذارات منمقة
لا يستطيع المرء، موضوعياً، أن يقيم وزناً لإعتذارات البابا أو مسؤولي الفاتيكان عن مواقفهم وتصريحاتهم لسببين رئيسيين. أولهما، ان هذه الاعتذارات بروتوكولية في طبيعتها ولا تقدم تراجعاً عما قيل، بل إعتذاراً عما إذا كانت هذه المواقف قد تسببت في إيذاء مشاعر الآخرين. والسبب الثاني، أنه ليس في الامر زلة لسان، فالنص الذي يقرأه البابا مكتوب ومعد سلفاً. ونضيف بان البابا، بلا شك، يتوقع ردور الفعل الغاضبة، سواء في تعرض للاسلام (سبتمبر 2006) أو للشعوب الاصلية في أميركا اللاتينية (مايو 2007)، ولكن الاهم، عنده هو الاجندة السياسية والتي تتطلب التعسكر مع الراسمالية الامبريالية وسياساتها النيوليبرالية وهيمنها على موارد الشعوب.
(6)
الخاتمة:
إستنتاجات مفتوحة للنقاش
لماذا كل هذا التاريخ؟
رب سائلٍ: لماذا هذا التيه في التاريخ السحيق وإجترار الماضي والنحيب على أطلال الحضارات والشعوب المندثرة؟
ولعل الاجابة، في جزء منها، تكمن في أن التاريخ قد يتوقف في تفاصيل حيثياته ووقائعه، إلاّ أنه لا يتوقف من حيث القوانين التي تحكمه والمصالح التي تحركه، وبهذا المعنى فان التاريخ هو حلبة صراع، هو الزمن المعاصر ومرآة أحداثه، هو اليوم. والاجابة، في جزئها الآخر، تكمن في ان الوعي بالتاريخ هو شرط لإستشراف المستقبل والقدرة الكامنة على التغيير. ومن هذا الباب، يمكن القول بان تاريخ الفاتيكان، متمثلاً في مصالحه ومتجلياً في النماذج والمحطات التي توقفنا عندها في هذه المقالة، هو سرد أمين ومعاصر لسياسة هذه الدولة.
لماذا الهجوم على زعماء أميركا اللاتينية؟
يثير هجوم البابا على زعماء النهوض القومي في اميركا اللاتنية العديد من الاسئلة:
أ) ألاّ يمثل هؤلاء القادة الضمير الحي لشعوبهم وللانسانية، ويعبرون بافكارهم ومشاريعهم للنهوض ببلادهم وإستعادة إقتصاداتها ومواردها ووضعها في خدمة حاجات الشعب، ألا يعبرون عما تكرره الكنيسة الكاثوليكية في لغوها عن المساواة بين الناس والعدالة الاجتماعية والرأفة بالفقير والمحتاج؟ فلماذا الهجوم عليهم؟
ب) لماذا يمتعض البابا من بزوغ فجر جديد لشعوب أميركا اللاتينية، فجر يضيئه قادة يعاملون شعوبهم كاخوة وأحباء يقاسموهم السرّاء والضرّاء ويجهدون في رفع الظلم والفقر عن كواهلهم بعد خمسة قرون طويلة ومظلمة؟
ت) يحق لنا أن نتسائل بعد هجوم البابا هذا: أين هي، إذن، أوجه الخلاف الجوهرية بين موقف البابا تجاه تلك الشعوب ومصالحها من جهة، وموقف رأس المال وسياساته تجاهها؟
لقد أصبحت الانجازات التي حققتها نضالات شعوب أميركا اللاتينية[5] مثالاّ ينير الدرب للانسانية جمعاء، ولذلك أصبح قادة هذه البلدان وقواها التقدمية هدفاً للامبريالية الاميركية كما كان عليه الحال في العراق. والارتباط بين الحالتين، العراقية واللاتينية، وثيق باكثر مما يبدو للعين. لقد سعى العراق الى إنجاز مهام التنمية، (بما فيها التصنيع والتحديث والتحكم بالموارد الطبيعية، وعلى رأسها النفط، والبشرية (إقتناء المعرفة العلمية والتكنولوجية)، وتوفير الخدمات الاجتماعية لمواطنيه، وحماية السيادة الوطنية والارتقاء بالنضال القومي العربي، فأصبح، أي العراق، "تهديداً" للمصالح الراسمالية في المنطقة وهو ما لن تسمح به الامبريالية الاميركية، فكان إحتلاله وتدميره ليصبح "عبرة" لمن تجول له نفسه مخالفة اوامر الأسياد او الخروج عن مخططاتهم.
لماذا أميركا اللاتينية؟
لقد فردنا جزءً كبيراً من هذه المقالة لمعالجة علاقة البابا (والفاتيكان) ومواقفه من أميركا اللاتينية، وذلك لسبيين:
الاول: فزّاعة لاهوت التحرير
هل يقوم لاهوت التحرير من سباته؟ سؤال يقض مضجع الفاتيكان وهو يشهد التحولات الكبيرة في القارة اللاتينية. وفي حين يحسب الكثيرون ان لاهوت التحرير قد إنتهى بعد إحتضار طويل، إلا ان الفاتيكان لا يعتقد ذلك. فتصريحات البابا نبدكت السادس عشر (مايو 2007) تنم عن خشيته من أن تكون الافكار والبذور النهضوية للاهوت التحرير ما زالت حية وقادرة على النهوض على أكتاف الجماهير[6] وبقيادة من أسماهم "زعماء العدالة الاجتماعية" في أميركا اللاتينية.[7] ومن هنا يتسنى للمرء فهم مغزى ومعاني نقد البابا لهؤلاء القادة وخشية الفاتيكان من المد الثوري في تلك القارة. وهناك، في الحقيقة، ما يبرر القلق الفاتيكاني المزمن حيال هذه الافكار. فلا زالت هذه الحركة كامنة برصيدها الشعبي، ومن هنا فهي، تشكل هاجساً حقيقياً للكنيسة وخطراً كبيراً من حيث أنها تلهب إرادة الشعوب وتستقطب حراكها ومقاومتها، والأخطر، أنها تأطر صراعها في مضامين ونضالات طبقية مما يعني تحويل نضال الفقراء من أجل حقوقهم وكرامتهم الى صراع طبقي يتجلى في إصطفاف الفقراء مع قوى التغيير واليسار. هذا هو بالفعل ما تشهد هذه القارة يوماً بعد يوم. ولا يقتصر الامر على صعود هذه القوى الى السلطة في العديد من بلدان أميركا اللاتينية بل إتساع الرقعة التنظيمية والشعبية لقوى التغيير الاجتماعية والسياسية مما ينذر بالانفجار والثورة ضد الانظمة الديكتاتورية العميلة والامبريالية الاميركية من ورائها.
من هذا المنظور، يمكن القول مجازاً ان لاهوت التحرير ومفاهيمه قد خلّفَ إستقطاباً جذرياً في تلك المجتمعات حيث وحدّ بين الفقير، كما ورد في الانجيل وعلى لسان المسيح، والبروليتاريا كما فهمها ماركس.
الثاني: إنحسار الكاثوليكية
بغض الطرف عن الصورة التي توحي بقوة وسطوة الكنيسة الكاثوليكية، فانها، أي الكنيسة، قلقة جداً حول مستقبل الكاثوليكية وتدني شعبيتها والتقلص المضطرد في تعداد أتباعها في العالم بشكل عام وفي اميركا اللاتينية على وجه الخصوص.
يقدر عدد الكاثوليك في العالم اليوم بما يقارب 1,1 مليارد كاثوليكي يقطن 800 مليون منهم الاميركيتين. وفي حين يشهد الاسلام، مثلاً، نمواً ديمغرافياً مضطرداَ في السنوات الاخيرة، فان الكاثوليكية تعاني من تقلص في عدد المؤمنين بها ومغادرة بعضهم للإلتحاق بكنائس مسيحية اخرى او ديانات أخرى. فعلى سبيل المثال، شكل الكاثوليك في البرازيل، الذين يبلغ تعدادهم 120 مليوناً، 89% من مسيحيي ذلك البلد عام 1980، وفي عام 2000 تناقصت نسبتهم الى 74%. أما المسيحيون البروتستانت فقد تضاعفت نسبتهم في ذلك البلد بين هذين العامين من 7% عام 1980 الى 15% عام 2000.
العرب وأميركا اللاتينية: مشروع البشرية
إذا كانت حركة النهضة العربية، منذ نشأتها في القرن التاسع عشر، وبمجمل تلوناتها وفصائلها القومية والاسلامية واليسارية والاشتراكية، تحمل مشروعاً قوميا نهضوياً يهدف الى إزالة تجزئة الوطن العربي وإنهاء الهيمنة الاجنبية والنهب الامبريالي لمواردنا وتحقيق الوحدة القومية والتحرير والتنمية، فكذلك هو، من حيث الجوهر، المشروع النهضوي في أميركا اللاتينية. فمشروع لاهوت التحرير، والذي يشكل محطة فاصلة في تاريخ وكفاح شعوب تلك القارة، يناضل من أجل إزالة الفقر والجوع والاستغلال وإستعادة الموارد المنهوبة ووضعها في خدمة شعوب تلك البلدان. لا نزعم بالطبع بان هناك مماثلة أو تطابقاً بين الحالة العربية والاخرى اللاتينية، فهناك العديد من الفوارق والخصوصيات التاريخية والاجتماعية والثقافية لكل منهما، بل المقصود هو التأكيد على المشترك (سمات العصر والمرحلة، المصالح، معسكر الاعداء والاصدقاء، التحالفات، والنضال المشترك وغيرها) بين شعوب العالم الثالث والذي يمثل جوهر المشروع التحريري والتنموي للانسانية جمعاء.
0 تعليقات:
إرسال تعليق
الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]
<< الصفحة الرئيسية